الجمعة، 15 أغسطس 2014

قفّصَ يقفّصُ تقفيصْ

القفّاص مفردة عراقية نتصورها عامية دارجة لكن أصلها فصيح , ومن يتفاجأ بتلك المعلومة سأقنعه وأزيده من البطيخ (شيف) فقد وردت مفردة (قفيص) في المعجم الوسيط , ذلك القاموس العتيق الذي نجى بأعجوبة من وباء التسقيط فالناس لازالوا متفقون عليه , يقول المعجم عن (القفيص) بأنه قطعة معدنية تثبّت المحراث على الدابّة , حصان أو ثور أو حمار بطريقة محكمة يصعب معها التملّص و الهروب , ولتلك المفردة تاريخ مخجل فقد كان أصلها (تقفيز) وهو أحد أنواع جماع الأستبضاع (أجلكم الله) تكون الضحية فيه مجبرة على الرضوخ للأنسان والبغل وحتى البعير شاعت في عهد الدولة الجاهلية وأزدهرت أيام دولة المؤمنين , فقد أتخذها ذوي الأحتياجات (الماصّة) من الطفيليين ليجعلوها مهنة يشار لها في كتب التاريخ , فمن منّا لا يعرف أشعب و بنان و جرذان الموائد المخضرمين , ضحاياهم دوماً البسطاء حين يبيعونهم الكلام الذي يبلغ ثمنه ( لا شيء) يسعون من أجل لقمة أو كيس دراهم أهدافهم مجالس الأنس وحفلات المجون للميسورين , ثم عادت تلك المفردة للتداول في القرن الماضي بهيئة أخرى وهي تتبع نفس الجذر (قفّص , يقفّص , تقفيص) فقد أحيا ثراها الثوريين بعد نجاتها وهي في آخر رمق من الأقطاعيين , فعاصرها قدماء الفلّاحون قبل قرار التسريح ومعهم العمال قبل تحويلهم الى موظفين, فلتلك المفردة هالة حنين فطرية عند العراقيين بحيث أنهم أطلقوا أسمها على القطعة الرئيسية لمحراث الساحبة (عنتر سبعين) أيام جفاف الفرات في العام خمسة وسبعين , وبما أن الزمن سهم بأتجاه واحد فقد تغيرت الكثير من الأمور بالنسبة لهذا المفهوم , فـ(القفيص) صار شكله دائري الآن , يُطبق على الأنابيب أبتداءاً من ميناء جيهان التركي وحتى خور الزبير ليمنع القطرة من أن تتسرّب خشية أن تصل الى جيوب المساكين , أمر آخر تغيّر فقد صار (للقفّاصة) نقابة وأدارة وتنظيم بحيث شملت في عضويتها الأمراء والسلاطين , أما بضاعتهم فهي الأخرى تغيّرت , فبعد أن كان أرباب تلك المهنة يبيعون الكذب الأبيض الجاهز الذي يجلبوه من الحانات والمواخير ,صار أحفادهم اليوم يسوّقون الوهم على أنه دواء شافٍ للعليل و يبيعون التعاويذ الجالبة للذباب الأزرق على أن فيها النجاة و جميل المصير , االغريب أن (قفّاصة) العصر يسوقون الموت الأسود كل يوم ليسلبوا آخر شيء يملكه المواطنين بعد أن سلّم الشعب نفسه ورفع راية الخنوع منذ عقد ونيف , أما الأغرب من كل ذلك والذي يجعل الشعر يشيب أن جميع (المقفّص عليهم) مستأنسين غير مكترثين , ونحن كذلك أحبتي , كان درساً في النحو لاتذهبو بعيداً , عساكم سالمين . 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق