الجمعة، 12 سبتمبر 2014

صور أجتماعية من بغداد عام 1916 كما رواها الكاتب عبد القادر المميز

في اليوم السادس عشر من نيسان سنة 1916 كانت مدينة بغداد في فرح عظيم لايوصف ذلك لان الجيش البريطاني المحصور في الكوت تحت قيادة الجنرال تاوزند سلم بلا قيد وشرط الى قائد الجيش التركي خليل باشا.. واذا علم القارىء ان الجيش التركي لم يستفتح من بداية الحرب حتى سقوط الكوت باسير واحد من اسرى الانكليز وان ذلك الجيش تجاوز عدده الثلاثة عشر الفا.. يدرك اسباب فرح الترك بذلك الانتصار الباهر.
دخل الجنود الاتراك بلدة الكوت وكانت باكورة اعمالهم سلب الاطعمة الموجودة في الباخرة الانكليزية (جلنار) التي ارسلها الجنرال نكسون من البصرة لامداد الجيش الانكليزي المحصور في الكوت والتي اسرها الاتراك قبل وصولها.. لان الجيش التركي كان في ضيق شديد من جهة الارزاق فالنفر التركي لاياكل الا (قلاطة) بينما النفر الانكليزي والهندي يشرب الصودة والليمونات وهو جالس في الخنادق والحاصل (الحجي) طويل:
انتشر خبر الانتصار في بغداد ودقت طبول الفرح والبشائر فهاجت الناس وماجت ولاول مرة منذ اعلان الحرب سمعنا صوت الجالغي البغدادي في قهوة سبع حيث جلس الاستاذ صالح شمولي الكمانجي والسنطورجي يوسف بتو وابو الدف يوسف حمو يغنون بستة.
يا حب الغالي يا حب.. عبدك واريد انخاك.. ياعبودي لاياحبيبي ياحب.
وكان مدير معارف ولاية بغداد رجل التضحية والاخلاص والمعالي حكمت بك سليمان اراد ان يشرك جميع طلاب المدرسة في افراح الجيش فاصدر امرا بتشكيل (فنر الابي) وذلك بان تجمع جميع المدارس في المستشفى العسكري (المستشفى الجمهوري الان) فيسير الطلاب في الشارع العام بعد ان يحمل كل واحد منهم فانوسا بيده ابو الشمعة ويذهب هذا الموكب العظيم الى قبر الالماني القائد غولج باشا او (قولنج باشا) على حد تعبير امهات الكراع.. كنا انذاك في الصف السابع وكان طلاب الصف الثاني عشر كلهم مرشحين الى خدمة الاحتياط في الجيش يهزؤون بالاوامر ويسخرون من التعليمات واذكر منهم السيد سلمان الشيخ داود المحامي عبد الرحمن خضر حاكم بداءة الموصل. والدكتور توفيق رشدي والدكتور شاكر السويدي. وعبد الكريم بافي. سارت مواكب المدارس في ابهة عظيمة بين الاضواء المتلألئة وهلاهل النساء وتصفيق الاهلين وكانت مدرستنا تسير وراء مدرسة الصنائع وطلاب مدرسة الصنائع كلهم بهلوانيون في حين ان كل واحد من طلاب مدرستنا ينطبق عليه الشعر..
خطوات النسيم تجرح خديه.. ولمس الحرير يدمي بنانه.
ولكن شاء السيد سليمان الشيخ داود ان يسبب لنا نكبة في تلك الليلة وكان مع رفاقه يمشون في الصفوف الامامية فمزق النظام واراد ان يسبق مدرسة الصنائع التي ابت الانصياع لرغبته وحصلت مشادة عنيفة بين الطرفين انتهت بشجار عنيف جرى كل ذلك في محل مقابل لاوتيل سافوي وكنت اسير جنبا الى جنب مع كمال عبد المجيد (مدير ناحية الاعظمية) واذا بنا نرى طلاب مدرستنا يتراكضون وراء تلاميذ الصنائع يعقبونهم بسرعة مدهشة.
(اويلاخ راسي.. يامعودين راح اموت.. دخيلكم).
هذه الصيحات التي كنا نسمعها من رفاقنا في وسط ذلك الظلام الدامس بعد ان تحطمت جميع الفوانيس التي كنا نحملها معا من اثر الراشديات والكفخات. واخيرا لم ار بدا من ان امسك كمال من يده قائلا:
اولاد.. خلي انعالك والا ترة نطلع من خشمنة..
توكل على الله.. موافق..
ثم اخذنا نركض من شدة الخوف في وسط الشارع العام الذي كان يومئذ مكدسا بالحجار والاتربة وسقطنا على غفلة في حفرة يبلغ عمقها تقريبا المتر وانكسرت فوانيسنا على اثرها كما كان كمال يضحك بشدة من جراء هذا الوضع بشدة ومن جراء بعض النكات التي كنت ألم بها اخيرا ساعدنا بعض الرفقاء واخرجونا من الحجرة فكان منظرنا مضحكاً لان ملابسنا استحالت الى لون (المرمري) من كثرة الاوحال التي تلوثت بها ثم رجعنا الى دورنا مشتتين مبعثرين بعد ان كان ذهابنا في بادىء الامر يضاهي الامر العسكري. وفي اليوم التالي طرقت مسامع حكمت بك سليمان هذه الاخبار المزعجة فاسف لها اسفا شديدا وحضر الى مدرستنا بعد ان جمع الطلاب في غرفة واحدة والقى علينا خطبة طويلة انبنا فيها تانيبا شديدا فقاطعه السيد سليمان الشيخ داود.. بيك فوك حكة دكة.
ولكن حكمت بك وجه قارص كلامه اليه والينا بالطبع فكانت لكلماته عبرة بليغة في نفوسنا حتى تركنا مدرستنا المحبوبة على اثر دخول جيش الانكليز الى بغداد ..
(نقلاً عن صحيفة المدى البغدادية)



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق