استيقظت خضيرة فجر اليوم الرابع
على وفاة زوجها المرحوم جاسم أبو إحسان . كان يعمل خلفة بناء ، و سقط في
الشغل على رأسه من الدرج الخشبي العالي أرضا على الشيلمان ، فقضى نحبه .
حمدت الله لأن اليوم الثالث على مجلس عزاء زوجها قد مر البارحة على أحسن ما
يرام . لقد استطاعت تدبير المنزل أحسن تدبير خلال الثلاثة أيام المنصرمة .
رهنت معضدها – و هو قطعة الذهب الوحيدة التي بقيت لديها من جهاز عرسها –
عند الملّاية أم نجاة بثلاثة دنانير ، و اشترت نصف خروف كامل ، و الرز ، و
الفاصوليا ، و معجون الطماطم ، و السكر ، و الشاي ، و الطحين . و لثلاثة
أيام ، قدّمت الشاي و الكعك لكل الزائرات من الصباح حتى المساء . و ذبحت
دجاجاتها الست ، فأولمت بهن و بلحم الخروف عشاء مناسبا جداً ليلة البارحة ،
دعت إليه جيرانها من الرجال و النساء ، فأكل الجميع حتى شبعوا ، و شربوا
بعدها الشاي ، و قرأوا سورة الفاتحة على روح زوجها المرحوم جاسم أبو إحسان .
جعلت المعزّين من الرجال يجلسون في غرفة النوم المفروشة بالحصران ، و
أجلست المعزّين من النساء في باحة الحوش المفتوحة المفروشة بالزرابي . لم
تكن توجد في بيتها سوى غرفة واحدة تستخدمها للنوم هي و أولادها الصغار
الأربعة و أبنتها الوحيدة الرضيعة خالدة ، و كذلك للاستقبال . دعت للوليمة
كل أقارب زوجها و جيرانها من الرجال و النساء من أهل الدربونة ، و لم تنس
دعوة جارتها داراً لدار ريما أم عظام رغم أعترض جارتها الثانية أم عباس .
-
هيييههه ! بدادا ! ( تلطم على خدها !) على بختچ عيني أم إحسان : گولي
غيرها ، أخيتي ! تعزمين هاي الگحبة البعيدة على ثالث المرحوم رجلچ ؟ يُمّا ،
يُمّا ، يُمّا ! ما تخافين ، و أنتِ صاحبة جهال ؟ ها ؟ يجوز يصير عليهم شي
، لا سمح الله ! يجوز ينصگعون ً! كلشي يصير ! و أنت حرمة وحيدة ، و چادودچ
عض لسانه و راح ، و عافچ بطرگ روحچ وي خمس زعاطيط ؟
- عيني ، أم عباس ، صلّي على نبيّچ محمد !
- الله المصلي على محمد و آل محمد !
- ألف الصلاة و السلام عليك يا رسول الله محمد . عيني أم عباس : الله وصّى على سابع جار ، لو لا ؟
- إي أخيتي ؛ إي ، موصّي !
- خلص ! الواحد إذا جاره چان يهودي ، لو مسيحي ، لو صبّي ، إشما يكون : بعد خلص ، هو صار إسمه جار ، و الله موصّي بيه !
تتدخل جارتها أم عبد ، و تقول :
- حَچيچ ذهب ، عيني أم إحسان . و بعدين منو يگول إحنا أحسن منها عند رب العالمين !
- على بختچ ، أم عبد ، يعني هاي الگحبة المسقّطة أحسن منّا إحنا بنات الأصول الشريفات ؟
- أم عباس ، شويّا هدّي برحمانچ ! ترى كل مريّة منّا هي گحبة إبّيتها ، و شريفة گدام الناس ! شويّا تساهلي ، أم عباس . و بيوم القيامة ، كل لشّة تتعلگ من كرعانها . أخيتي ، ميصير أحنا نشيل غيبتها للمريّة ، و هيَّ غافلة عنّا . الله يگول : لا تحچي على الكافر و هو غافل ! و بعدين ، ترى هيَّ كلّش خوش مرة : رايحة رادة توزع چكليت و ملبّس على الزعاطيط ، و تصلّي و تصوم ، و تذبح و تطبخ أكل بأربعين الحسين . و تشتري كل يوم جمعة كسور ، و توزعهن على الفقرا إللي يسموها : أم عضام ! و ربّچ ترى غفورٌ رحيم ! و ترى حرام عليچ أخيتي إتجيبين طاريها بالموزين ، و هي مريّة وحيدة ! يعني يصير چمالة فوگ غضب الله عليها بهاي الدنيا ، يجي غضب بنيادم ؟
تتدخل جارتهم الرابعة أم رابحة :
- ترى صدگ هاي المريّه كلّش خطيّه ، و تكسر الخاطر ! و الصوچ مو صوچها ؛ الصوچ من ذاك النذل اللي تعّالها ، و خلّاها تنجبر بيه ، و بعدين ورّطها ، و خلّاها تعيف أهلها . و بعد ما أكل حلاوتها ، دار وجهه و راح ، و رماها ذيچ الرمية السودا !
- صدگ ؟ تدرين ، أم رابحة ، هاي أول مرة أسمع هاي السالفة بيها ، و أحنا دار بصف دار !
- عيني أم أحسان : ريما بغدادية . أنجبرتلها بفرد واحد مهتلف ، و مسقّط ، و محّد ينطيه مَرَة . شمدريها المسكينة و هي زغيرونة ، و بعدها حْديثة ، و ماتفتهم من الدنيا شي ؟ شافته ولد حليو ، و يتمرضعلها ، و حچيه ناعم ، و يگح أباعر ، و شتؤمرين أسوّيلچ ، و عيوني أقلّعهن إلچ ؛ إنجبرت المگرودة بيه ! أهلها چانوا كلّش غنايا ، و الولد چان طمعان بفلوس أهلها . خطبها من أبوها ، بس أبوها ما رضى بيه ، و طرّده من البيت . گوم البعيد قشمرها بالحچي الحلو المسفّط ، و تعّالها ، و خلّاها تعيف أهلها ، و تنهزم ويّاه . جابها للحلة هنا ، و أجّر هذا البيت بقرش و نص ، و أتزوج بيها بورقة شرعية عند الملّا . أبوها من شاف بنته شردت من بيته ، و كسرت كلامه ، إتبرأ منها . الساقط رجلها من شاف أهلها ما ردّوا بنتهم إلهم ، و ما قبلوا بيه نسيب إلهم ، و عرف ما راح يطب بجيبه شي من عرسه بيها ، عافها و انهزم ، و بقت هيّ هنا وحيدة تبچي ، و تصفگ إيد بإيد ، بس شيفيد ؟ زين : إبّيش تعيش المهضومة ، ها ؟ راحت المسكينة ، و لزمت ذاك الدرب ، و أبوچ الله يرحمه !
- حقها عيني ، حقها ! تنلام ؟ شتسوّي و هيّ ما عدها لا والي ، و لا ناصر ، و لا معين ؟ هوايا زين سوّيتي أم إحسان من عزمتيها لعشا ثالث المرحوم أبو إحسان !
بعد أن صلّت أم إحسان صلاة الفجر ، أخذت تسبّح ، و هي تفكر . المرحوم أبو إحسان كان يشتغل أسبوعاً ، و يقعد شهراً . و ليس لديه أي مبلغ مدّخر ، و لذلك فقد اضطرت لرهن معضدها الذهب للصرف على مجلس عزائه . أكبر أولادها إحسان ، عمره أحدى عشرة سنة ، و هو في الصف الخامس الإبتدائي . البارحة وعدها شقيق زوجها حامد بالمساعدة . كيف ستستطيع العيش و لديها خمسة أطفال ؟ حمدت الله لأن الدار التي تسكن فيه يعود للمرحوم زوجها . قامت للمطبخ لتحضير طعام اليوم ! كانت قد عزلت ما تبقى من وليمة ليلة الأمس : لديهم بعض الرز و المرق الذي يكفيهم غداءً لليوم . في وجبة العشاء ، تستطيع قلي آخر ما تبقى لديها من الطماطم و البصل بالخبز . ما ذا عن طعام الفطور ؟ الخبز بالشاي ! الحمد لله !
في مساء ذلك اليوم ، زارهم حامد عم أطفالها ، و قال لها بعد أن شرب الشاي :
- عيني ، أم إحسان : أنت تعلمين بحالي جيداً . أنني لبّاخ : أشتغل يوماً أو يومين ، و أقعد شهراُ أو أكثر ! و أنا صاحب عيال ، و لا أستطيع الكذب عليك الآن ، و الإدعاء بمقدرتي على الصرف على عائلة ألمرحوم أخي و عائلتي معاً . أحسن حل هو أن تشغّلي أولادك . نحمد الله على أن إبنك الأكبر إحسان قد أصبح الآن رجلاً ، ما شاء الله ، و المدرسة لا تفيد . و لقد آن الأوان لكي يصبح هو أبا البيت ، فيعيلك أنت و إخوانه . يمكنه أن يأتي معي منذ صباح الغد ليشتغل في البناء . اليومية هي مائة فلس ، وهي نعمة من الباري الكريم . و يوماً بعد يوم ، سيتدرج في الصنعة ، و تزداد يوميته ، حتى يصبح خلفة بناء مثل المرحوم والده ! الله وكيلك ، ليس لدي في جيبي غير هذا الدينار ، و ها أنا أقدمه هدية مني لليتامى أولاد أخي !
في مساء ذلك اليوم ، صلّت أم إحسان صلاة الغرب و العشاء على سطح الدار ، ثم رفعت يديها للسماء :
- ربي ، أنت تعلم بحالي ، فارزقني ! لا أريد أن أصبح مثل ريما أم عظام ، فينكسر شرفي ، و يلوك الناس سمعتي . الشرف عزيز ، فارزقني برحمتك يا أرحم الراحمين !
سمعت ريما و هي تصلي على سطح دارها دعاء جارتها . و ما أن أنهت صلاتها ، حتى وضعت خمسة دنانير في صرة ، و تناولت ورقة كتبت عليها جملة واحدة ، ثم لفت الصرة بحصاة ، و رمتها في دار أم إحسان . سمع أحسان دقة الصرة و هي تسقط متدحرجة على أرضية الحوش ، فأخذها إلى والدته ، و فتحها ، و أعطاها الخمسة دنانير ، و قرأ لها الورقة :
- شيرزي عبي ، و عيّشي أطفالك !
في صباح اليوم التالي ، زارت أم إحسان بيت الملاية أم نجاة لتتعلم من صانعاتها كيفية شيرزة العبي . عادت إلى الدار مكتئبة : كان نظرها ضعيفاً ، و لا يعينها على الشيرزة الدقيقة .
في مساء نفس اليوم ، صعدت أم إحسان للسطح ، فصلّت ، ثم إشتكت لربها ضعف نظرها ، و عدم أستطاعتها تنفيذ أمره بشيرزة العبي . سمعتها جارتها ريما ، فرمت لها بصرة ثانية ، و فيها ورقة ، مع تسعة عشر ديناراً .
ألتقط إحسان الصرة ، و قرأ التذكرة لأمه :
- أشتري ماكنة خياطة ، و اشتغلي عليها !
في صباح اليوم التالي ، ذهب إحسان و أمه للوكيل ، فاشتروا ماكنة خياطة من طراز "سنگر" , و بدأت رحلة أمه الطويلة مع شغل الماكنة و الأقمشة و الخيوط و الإبر . ثم أصبحت أمهر خياطة في الحلة ! خرّجت أبناءها كلهم من أحسن المدارس ، و تعيّنوا بوظائف في الدوائر ، و هي ترفض التوقف عن الخياطة بالنظارات السميكة التي ترتديها !
بعد مضي عشرين سنة ، زارتهم جارتهم أم رابحة مساءً ، و قالت لأم إحسان :
- عيني أم إحسان . هستوني چنت يم جارتكم ريما ، و طلبت مني أن أجي لبيتكم ، و اگول لكم هيَّ تريدكم كلكم تزوروها هسّا في بيتها .
أسرعت العائلة كلها لبيت ريما . كانت الأبواب مفتوحة كلها . تعجّبوا من الأناقة الملائكية لأثاث البيت و ستائره و فرشه ، و عبق رائحة البخور الزكية المنتشرة في أرجاء الدار . كانت ريما مستلقية على سريرها في غرفة النوم ، و هي ترتدي فستان عرس أبيض من الحرير الخالص اللامع و المرصّع بالنجوم ، و التاج على رأسها ، و بشرتها تتوهج كالشهاب ، و عيناها الريميتان تقدحان كجمرتين دامعتين .
- السلام عليكم .
- و عليكم السلام يا جيران السرور . أهلاً و سهلاً بيكم . شرّفتوني و فرّحتوني بجيتكم ! أسمعني زين إبني إحسان : أنا سأموت هذا اليوم عند منتصف الليل . بعد صلاة الفجر ، تأتون كلكم للبيت هنا . ستكون الأبواب مفتوحة ، و ستجدونني ميّتة على سريري هذا . كفّنوني بالحبرة الكائنة تحت رأسي على بدلتي هذه ! و تقرأ أنت يا أحسان سورة ياسين عند رأسي ، و تصلّي على جنازتي . ثم توسدونني في التابوت الموجود في الغرفة الثانية ، و تحملونني ، أنت و أخوتك الثلاثة ، إلى المسجد الذي بنيته برأس الشارع . ستجدون قبري محفوراً هناك ، و الشاهد مكتوب ، و كذلك الطابوق و الجص حاضر . لا أريد إقامة أي مجلس للفاتحة على روحي . أنت يا إحسان المسؤول عن بيع كل موجودات هذا الدار ، و التصدق بها على الفقراء بمعرفتك . أما الإيجار ، فمدفوع إلى نهاية هذا الشهر ، و المفاتيح في الأبواب . بعد دفني ، و بيع الموجودات ، تجمع يا إحسان المفاتيح ، و تسلمها للحاج لطيف ، صاحب الدار . لم تعد عندي أية نقود ، فقد تصدقت بها كلها ، عدا خمسة دنانير تحت مخدتي . تأخذها يا إحسان ، و تدفعها لعمك حامد مقابل بناءه رأس القبر . أما مفاتيح المسجد ، فهي معلقة بالمسمار خلف باب غرفتي هذه . بعد دفني ، تسلّم المفاتيح للسيد محيي ليكون قيّماً عليه .
- صار ، عمتي !
- عيني ، إسم الله عليچ ، أخيتي ريما . على بختچ ، شنهو هذا الحچي ، عيني ؟ إنتي بعدچ شابّة ! و إنشاء الله عمرچ طويل !
- أم إحسان : كلشي إله أوان . و آني عمري صار أربعين سنة ، و زماني راح و خلص ، و لازم أموت اليوم . و الحمد لله على كل شيء !
- عيني ريما ، أخاف عطشانة ؟ تريدين أجيبلچ شويّة ماي ؟
- شكراً أم إحسان . روحي صارت ما تشتهي شي غير الموت . صار لي ست أيام صايمة . إنشاء الله أشوفكم كلكم بوجه أبيض ، بعد عمر طويل ، يَمْ رب العالمين ؛ نحمده و نشكره على نعمته ؛ وتعذروني من الإزعاج و التقصير ! ودّعتكم في أمان الله !
الكاتب / حسين علوان حسين - بغداد
- عيني ، أم عباس ، صلّي على نبيّچ محمد !
- الله المصلي على محمد و آل محمد !
- ألف الصلاة و السلام عليك يا رسول الله محمد . عيني أم عباس : الله وصّى على سابع جار ، لو لا ؟
- إي أخيتي ؛ إي ، موصّي !
- خلص ! الواحد إذا جاره چان يهودي ، لو مسيحي ، لو صبّي ، إشما يكون : بعد خلص ، هو صار إسمه جار ، و الله موصّي بيه !
تتدخل جارتها أم عبد ، و تقول :
- حَچيچ ذهب ، عيني أم إحسان . و بعدين منو يگول إحنا أحسن منها عند رب العالمين !
- على بختچ ، أم عبد ، يعني هاي الگحبة المسقّطة أحسن منّا إحنا بنات الأصول الشريفات ؟
- أم عباس ، شويّا هدّي برحمانچ ! ترى كل مريّة منّا هي گحبة إبّيتها ، و شريفة گدام الناس ! شويّا تساهلي ، أم عباس . و بيوم القيامة ، كل لشّة تتعلگ من كرعانها . أخيتي ، ميصير أحنا نشيل غيبتها للمريّة ، و هيَّ غافلة عنّا . الله يگول : لا تحچي على الكافر و هو غافل ! و بعدين ، ترى هيَّ كلّش خوش مرة : رايحة رادة توزع چكليت و ملبّس على الزعاطيط ، و تصلّي و تصوم ، و تذبح و تطبخ أكل بأربعين الحسين . و تشتري كل يوم جمعة كسور ، و توزعهن على الفقرا إللي يسموها : أم عضام ! و ربّچ ترى غفورٌ رحيم ! و ترى حرام عليچ أخيتي إتجيبين طاريها بالموزين ، و هي مريّة وحيدة ! يعني يصير چمالة فوگ غضب الله عليها بهاي الدنيا ، يجي غضب بنيادم ؟
تتدخل جارتهم الرابعة أم رابحة :
- ترى صدگ هاي المريّه كلّش خطيّه ، و تكسر الخاطر ! و الصوچ مو صوچها ؛ الصوچ من ذاك النذل اللي تعّالها ، و خلّاها تنجبر بيه ، و بعدين ورّطها ، و خلّاها تعيف أهلها . و بعد ما أكل حلاوتها ، دار وجهه و راح ، و رماها ذيچ الرمية السودا !
- صدگ ؟ تدرين ، أم رابحة ، هاي أول مرة أسمع هاي السالفة بيها ، و أحنا دار بصف دار !
- عيني أم أحسان : ريما بغدادية . أنجبرتلها بفرد واحد مهتلف ، و مسقّط ، و محّد ينطيه مَرَة . شمدريها المسكينة و هي زغيرونة ، و بعدها حْديثة ، و ماتفتهم من الدنيا شي ؟ شافته ولد حليو ، و يتمرضعلها ، و حچيه ناعم ، و يگح أباعر ، و شتؤمرين أسوّيلچ ، و عيوني أقلّعهن إلچ ؛ إنجبرت المگرودة بيه ! أهلها چانوا كلّش غنايا ، و الولد چان طمعان بفلوس أهلها . خطبها من أبوها ، بس أبوها ما رضى بيه ، و طرّده من البيت . گوم البعيد قشمرها بالحچي الحلو المسفّط ، و تعّالها ، و خلّاها تعيف أهلها ، و تنهزم ويّاه . جابها للحلة هنا ، و أجّر هذا البيت بقرش و نص ، و أتزوج بيها بورقة شرعية عند الملّا . أبوها من شاف بنته شردت من بيته ، و كسرت كلامه ، إتبرأ منها . الساقط رجلها من شاف أهلها ما ردّوا بنتهم إلهم ، و ما قبلوا بيه نسيب إلهم ، و عرف ما راح يطب بجيبه شي من عرسه بيها ، عافها و انهزم ، و بقت هيّ هنا وحيدة تبچي ، و تصفگ إيد بإيد ، بس شيفيد ؟ زين : إبّيش تعيش المهضومة ، ها ؟ راحت المسكينة ، و لزمت ذاك الدرب ، و أبوچ الله يرحمه !
- حقها عيني ، حقها ! تنلام ؟ شتسوّي و هيّ ما عدها لا والي ، و لا ناصر ، و لا معين ؟ هوايا زين سوّيتي أم إحسان من عزمتيها لعشا ثالث المرحوم أبو إحسان !
بعد أن صلّت أم إحسان صلاة الفجر ، أخذت تسبّح ، و هي تفكر . المرحوم أبو إحسان كان يشتغل أسبوعاً ، و يقعد شهراً . و ليس لديه أي مبلغ مدّخر ، و لذلك فقد اضطرت لرهن معضدها الذهب للصرف على مجلس عزائه . أكبر أولادها إحسان ، عمره أحدى عشرة سنة ، و هو في الصف الخامس الإبتدائي . البارحة وعدها شقيق زوجها حامد بالمساعدة . كيف ستستطيع العيش و لديها خمسة أطفال ؟ حمدت الله لأن الدار التي تسكن فيه يعود للمرحوم زوجها . قامت للمطبخ لتحضير طعام اليوم ! كانت قد عزلت ما تبقى من وليمة ليلة الأمس : لديهم بعض الرز و المرق الذي يكفيهم غداءً لليوم . في وجبة العشاء ، تستطيع قلي آخر ما تبقى لديها من الطماطم و البصل بالخبز . ما ذا عن طعام الفطور ؟ الخبز بالشاي ! الحمد لله !
في مساء ذلك اليوم ، زارهم حامد عم أطفالها ، و قال لها بعد أن شرب الشاي :
- عيني ، أم إحسان : أنت تعلمين بحالي جيداً . أنني لبّاخ : أشتغل يوماً أو يومين ، و أقعد شهراُ أو أكثر ! و أنا صاحب عيال ، و لا أستطيع الكذب عليك الآن ، و الإدعاء بمقدرتي على الصرف على عائلة ألمرحوم أخي و عائلتي معاً . أحسن حل هو أن تشغّلي أولادك . نحمد الله على أن إبنك الأكبر إحسان قد أصبح الآن رجلاً ، ما شاء الله ، و المدرسة لا تفيد . و لقد آن الأوان لكي يصبح هو أبا البيت ، فيعيلك أنت و إخوانه . يمكنه أن يأتي معي منذ صباح الغد ليشتغل في البناء . اليومية هي مائة فلس ، وهي نعمة من الباري الكريم . و يوماً بعد يوم ، سيتدرج في الصنعة ، و تزداد يوميته ، حتى يصبح خلفة بناء مثل المرحوم والده ! الله وكيلك ، ليس لدي في جيبي غير هذا الدينار ، و ها أنا أقدمه هدية مني لليتامى أولاد أخي !
في مساء ذلك اليوم ، صلّت أم إحسان صلاة الغرب و العشاء على سطح الدار ، ثم رفعت يديها للسماء :
- ربي ، أنت تعلم بحالي ، فارزقني ! لا أريد أن أصبح مثل ريما أم عظام ، فينكسر شرفي ، و يلوك الناس سمعتي . الشرف عزيز ، فارزقني برحمتك يا أرحم الراحمين !
سمعت ريما و هي تصلي على سطح دارها دعاء جارتها . و ما أن أنهت صلاتها ، حتى وضعت خمسة دنانير في صرة ، و تناولت ورقة كتبت عليها جملة واحدة ، ثم لفت الصرة بحصاة ، و رمتها في دار أم إحسان . سمع أحسان دقة الصرة و هي تسقط متدحرجة على أرضية الحوش ، فأخذها إلى والدته ، و فتحها ، و أعطاها الخمسة دنانير ، و قرأ لها الورقة :
- شيرزي عبي ، و عيّشي أطفالك !
في صباح اليوم التالي ، زارت أم إحسان بيت الملاية أم نجاة لتتعلم من صانعاتها كيفية شيرزة العبي . عادت إلى الدار مكتئبة : كان نظرها ضعيفاً ، و لا يعينها على الشيرزة الدقيقة .
في مساء نفس اليوم ، صعدت أم إحسان للسطح ، فصلّت ، ثم إشتكت لربها ضعف نظرها ، و عدم أستطاعتها تنفيذ أمره بشيرزة العبي . سمعتها جارتها ريما ، فرمت لها بصرة ثانية ، و فيها ورقة ، مع تسعة عشر ديناراً .
ألتقط إحسان الصرة ، و قرأ التذكرة لأمه :
- أشتري ماكنة خياطة ، و اشتغلي عليها !
في صباح اليوم التالي ، ذهب إحسان و أمه للوكيل ، فاشتروا ماكنة خياطة من طراز "سنگر" , و بدأت رحلة أمه الطويلة مع شغل الماكنة و الأقمشة و الخيوط و الإبر . ثم أصبحت أمهر خياطة في الحلة ! خرّجت أبناءها كلهم من أحسن المدارس ، و تعيّنوا بوظائف في الدوائر ، و هي ترفض التوقف عن الخياطة بالنظارات السميكة التي ترتديها !
بعد مضي عشرين سنة ، زارتهم جارتهم أم رابحة مساءً ، و قالت لأم إحسان :
- عيني أم إحسان . هستوني چنت يم جارتكم ريما ، و طلبت مني أن أجي لبيتكم ، و اگول لكم هيَّ تريدكم كلكم تزوروها هسّا في بيتها .
أسرعت العائلة كلها لبيت ريما . كانت الأبواب مفتوحة كلها . تعجّبوا من الأناقة الملائكية لأثاث البيت و ستائره و فرشه ، و عبق رائحة البخور الزكية المنتشرة في أرجاء الدار . كانت ريما مستلقية على سريرها في غرفة النوم ، و هي ترتدي فستان عرس أبيض من الحرير الخالص اللامع و المرصّع بالنجوم ، و التاج على رأسها ، و بشرتها تتوهج كالشهاب ، و عيناها الريميتان تقدحان كجمرتين دامعتين .
- السلام عليكم .
- و عليكم السلام يا جيران السرور . أهلاً و سهلاً بيكم . شرّفتوني و فرّحتوني بجيتكم ! أسمعني زين إبني إحسان : أنا سأموت هذا اليوم عند منتصف الليل . بعد صلاة الفجر ، تأتون كلكم للبيت هنا . ستكون الأبواب مفتوحة ، و ستجدونني ميّتة على سريري هذا . كفّنوني بالحبرة الكائنة تحت رأسي على بدلتي هذه ! و تقرأ أنت يا أحسان سورة ياسين عند رأسي ، و تصلّي على جنازتي . ثم توسدونني في التابوت الموجود في الغرفة الثانية ، و تحملونني ، أنت و أخوتك الثلاثة ، إلى المسجد الذي بنيته برأس الشارع . ستجدون قبري محفوراً هناك ، و الشاهد مكتوب ، و كذلك الطابوق و الجص حاضر . لا أريد إقامة أي مجلس للفاتحة على روحي . أنت يا إحسان المسؤول عن بيع كل موجودات هذا الدار ، و التصدق بها على الفقراء بمعرفتك . أما الإيجار ، فمدفوع إلى نهاية هذا الشهر ، و المفاتيح في الأبواب . بعد دفني ، و بيع الموجودات ، تجمع يا إحسان المفاتيح ، و تسلمها للحاج لطيف ، صاحب الدار . لم تعد عندي أية نقود ، فقد تصدقت بها كلها ، عدا خمسة دنانير تحت مخدتي . تأخذها يا إحسان ، و تدفعها لعمك حامد مقابل بناءه رأس القبر . أما مفاتيح المسجد ، فهي معلقة بالمسمار خلف باب غرفتي هذه . بعد دفني ، تسلّم المفاتيح للسيد محيي ليكون قيّماً عليه .
- صار ، عمتي !
- عيني ، إسم الله عليچ ، أخيتي ريما . على بختچ ، شنهو هذا الحچي ، عيني ؟ إنتي بعدچ شابّة ! و إنشاء الله عمرچ طويل !
- أم إحسان : كلشي إله أوان . و آني عمري صار أربعين سنة ، و زماني راح و خلص ، و لازم أموت اليوم . و الحمد لله على كل شيء !
- عيني ريما ، أخاف عطشانة ؟ تريدين أجيبلچ شويّة ماي ؟
- شكراً أم إحسان . روحي صارت ما تشتهي شي غير الموت . صار لي ست أيام صايمة . إنشاء الله أشوفكم كلكم بوجه أبيض ، بعد عمر طويل ، يَمْ رب العالمين ؛ نحمده و نشكره على نعمته ؛ وتعذروني من الإزعاج و التقصير ! ودّعتكم في أمان الله !
الكاتب / حسين علوان حسين - بغداد
صورة من محلة الكلجيّه قرب الميدان في أربعينات بغداد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق